فصل: فصل: حكم ما لو قال المدعى‏:‏ قتله هذا ورجل آخر لا أعرفه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏فإن لم يحلف المدعون‏,‏ حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ‏]‏

هذا ظاهر المذهب وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة‏,‏ وأبو الزناد ومالك والليث‏,‏ والشافعي وأبو ثور وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنهم يحلفون‏,‏ ويغرمون الدية لقضية عمر وخبر سليمان بن يسار وهو قول أصحاب الرأي ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم‏)‏ أي يتبرءون منكم وفي لفظ قال‏:‏ ‏(‏فيحلفون خمسين يمينا‏,‏ ويبرءون من دمه‏)‏ وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يغرم اليهود وأنه أداها من عنده ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه‏,‏ فيبرأ بها كسائر الأيمان ولأن ذلك إعطاء بمجرد الدعوى‏,‏ فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل فإن قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى المال‏,‏ وسائر الحقوق ولأن في ذلك جمعا بين اليمين والغرم فلم يشرع كسائر الحقوق‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ فإن لم يحلف المدعون‏,‏ ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال ‏]‏

يعني أدى ديته لقضية ‏(‏عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الأنصار أن يحلفوا وقالوا‏:‏ كيف نقبل أيمان قوم كفار‏؟‏ فوداه النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده كراهية أن يطل دمه‏)‏ فإن تعذر فداؤه من بيت المال‏,‏ لم يجب على المدعى عليهم شيء لأن الذي يوجبه عليهم اليمين وقد امتنع مستحقوها من استيفائها فلم يجب لهم غيرها‏,‏ كدعوى المال‏.‏

فصل‏:‏

وإن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا وعن أحمد رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا‏,‏ وهو قول أبي حنيفة ولنا أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها‏,‏ كسائر الأيمان إذا ثبت هذا فإنه لا يجب القصاص بالنكول لأنه حجة ضعيفة فلا يشاط بها الدم‏,‏ كالشاهد واليمين قال القاضي‏:‏ ويديه الإمام من بيت المال نص عليه أحمد وروي عنه حرب بن إسماعيل أن الدية تجب عليهم وهذا هو الصحيح وهو اختيار أبي بكر لأنه حكم ثبت بالنكول‏,‏ فيثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى ولأن وجوبها في بيت المال‏,‏ يفضي إلى إهدار الدم وإسقاط حق المدعين مع إمكان جبره‏,‏ فلم يجز كسائر الدعاوى ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن إيجاب المال بها‏,‏ فلم تخل من وجوب شيء على المدعى عليه كما في سائر الدعاوى وها هنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله‏,‏ ولم يجبر على اليمين لخلا من وجوب شيء عليه بالكلية وقال أصحاب الشافعي‏:‏ إذا نكل المدعى عليهم ردت الأيمان على المدعين إن قلنا‏:‏ موجبها المال فإن حلفوا استحقوا‏,‏ وإن نكلوا فلا شيء لهم وإن قلنا‏:‏ موجبها القصاص فهل ترد على المدعين‏؟‏ فيه قولان وهذا القول لا يصلح لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها المدعى فلا ترد عليه‏,‏ كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعاوى ولأنها يمين مردودة على أحد المتداعيين فلا ترد على من ردها‏,‏ كدعوى المال‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال ‏:‏ دمي عند فلان‏.‏ فليس ذلك بموجب للقسامة، ما لم يكن لوث ‏]‏

هذا قول أكثر أهل العلم؛ منهم الثوري، والأوزاعي، وأصحاب الرأي‏.‏ وقال مالك، والليث ‏:‏ هو لوث؛ لأن قتيل بني إسرائيل قال ‏:‏ قتلني فلان‏.‏ فكان حجة‏.‏ وروي هذا القول عن عبد الملك بن مروان‏.‏ ولنا، قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم‏)‏ ولأنه يدعي حقا لنفسه، فلم يقبل قوله، كما لو لم يمت؛ ولأنه خصم، فلم تكن دعواه لوثا، كالولي‏.‏ فأما قتيل بني إسرائيل، فلا حجة فيه، فإنه لا قسامة فيه، ولأن ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام، حيث أحياه الله تعالى بعد موته، وأنطقه بقدرته بما اختلفوا فيه‏.‏ ولم يكن الله تعالى لينطقه بالكذب، بخلاف الحي، ولا سبيل إلى مثل هذا اليوم، ثم ذاك في تنزيه المتهمين، فلا يجوز تعديتها إلى تهمة البريئين‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏والنساء والصبيان لا يقسمون‏]‏

يعني إذا كان المستحق نساء وصبيانا لم يقسموا أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا يقسمون سواء كانوا من الأولياء أو مدعى عليهم لأن الأيمان حجة للحالف‏,‏ والصبي لا يثبت بقوله حجة ولو أقر على نفسه لم يقبل‏,‏ فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى وأما النساء فإذا كن من أهل القتيل لم يستحلفن وبهذا قال ربيعة والثوري‏,‏ والليث والأوزاعي وقال مالك‏:‏ لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد قال ابن القاسم‏:‏ ولا يقسم في العمد إلا اثنان فصاعدا‏,‏ كما أنه لا يقتل إلا بشاهدين وقال الشافعي‏:‏ يقسم كل وارث بالغ لأنها يمين في دعوى فتشرع في حق النساء كسائر الأيمان ولنا‏,‏ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فلا تسمع من النساء‏,‏ كالشهادة ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل ولا مدخل للنساء في إثباته‏,‏ وإنما يثبت المال ضمنا فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين‏,‏ ولا بشهادة رجل وامرأتين وإن كان مقصودها المال فأما إن كانت المرأة مدعى عليها القتل فإن قلنا إنه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضا لأن ذلك مختص بالرجال وإن قلنا‏:‏ يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف لأنها لا تثبت بقولها حقا ولا قتلا‏,‏ وإنما هي لتبرئتها منه فتشرع في حقها اليمين كما لو لم يكن لوث فعلى هذا‏,‏ إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرجال وسقط حكم النساء‏,‏ وإن كان فيهم صبيان ورجال بالغون أو كان فيهم حاضرون وغائبون فقد ذكرنا من قبل أن القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب‏,‏ فكذا لا تثبت حتى يبلغ الصبي لأن الحق لا يثبت إلا ببينته الكاملة والبينة أيمان الأولياء كلهم والأيمان لا تدخلها النيابة ولأن الحق إن كان قصاصا‏,‏ فلا يمكن تبعيضه فلا فائدة في قسامة الحاضر البالغ وإن كان غيره‏,‏ فلا تثبت إلا بواسطة ثبوت القتل وهو لا يتبعض أيضا وقال القاضي‏:‏ إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير‏,‏ ولا الحاضر حتى يقدم الغائب لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئا في الحال وإن كان موجبا للمال كالخطأ وعمد الخطأ‏,‏ فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق قسطه من الدية وهذا قول أبي بكر وابن حامد‏,‏ ومذهب الشافعي واختلفوا في كم يقسم الحاضر‏؟‏ فقال ابن حامد‏:‏ يقسم بقسطه من الأيمان فإن كان الأولى اثنين أقسم الحاضر خمسا وعشرين يمينا وإن كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة يمينا‏,‏ وإن كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يمينا وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه واستوفى حقه لأنه لو كان الجميع حاضرين‏,‏ لم يلزمه أكثر من قسطه فكذلك إذا غاب بعضهم كما في سائر الحقوق ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية‏,‏ فلا يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان وقال أبو بكر‏:‏ يحلف الأول خمسين يمينا وهذا قول الشافعي لأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة والبينة هي الأيمان كلها ولذلك لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما‏,‏ لم يستحق نصيبه منه إلا بالبينة المثبتة لجميعه ولأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق ولو ادعى مالا له فيه شركة له به شاهد لحلف يمينا كاملة‏,‏ كذلك هذا فإذا قدم الثاني‏:‏ أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا عند أبي بكر لأنه يبنى على أيمان أخيه المتقدمة وقال الشافعي‏:‏ فيه قول آخر أنه يقسم خمسين يمينا أيضا‏,‏ لأن أخاه إنما استحق بخمسين فكذلك هو فإذا قدم ثالث أو بلغ‏,‏ فعلى قول أبي بكر يقسم سبع عشرة يمينا لأنه يبني على أيمان أخويه وعلى قول الشافعي‏,‏ فيه قولان أحدهما أنه يقسم سبع عشرة يمينا والثاني‏:‏ خمسين يمينا وإن قدم رابع كان على هذا المثال والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

والخنثى المشكل يحتمل أن يقسم لأن سبب القسامة وجد في حقه‏,‏ وهو كونه مستحقا للدم ولم يتحقق المانع من يمينه ويحتمل أن لا قسامة عليه لأنه لا يعقل من العقل ولا يثبت القتل بشهادته‏,‏ أشبه المرأة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا‏]‏

اختلفت الرواية عن أحمد‏,‏ فيمن تجب عليه أيمان القسامة فروي أنه يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث خمسون رجلا كل واحد منهم يمينا واحدة وهذا قول لمالك‏,‏ فعلى هذا يحلف الوارث منهم الذين يستحقون دمه فإن لم يبلغوا خمسين‏,‏ تمموا من سائر العصبة يؤخذ الأقرب منهم فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها ويعرف كيفية نسبه من المقتول‏,‏ فأما من عرف أنه من القبيلة ولم يعرف وجه النسب لم يقسم مثل أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشي‏,‏ ولا يعرف كيفية نسبه منه فلا يقسم لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح وكلهم يرجعون إلى أب واحد‏,‏ ولو قتل من لا يعرف نسبه لم يقسم عنه سائر الناس فإن لم يوجد من نسبه خمسون‏,‏ رددت الأيمان عليهم وقسمت بينهم فإن انكسرت عليهم‏,‏ جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار‏:‏ ‏(‏يحلف خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ وقد علم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن لعبد الله بن سهل خمسون رجلا وارثا فإنه لا يرثه إلا أخوه‏,‏ أو من هو في درجته أو أقرب منه نسبا ولأنه خاطب بهذا بني عمه‏,‏ وهم غير وارثين والرواية الثانية لا يقسم إلا الوارث وتعرض الأيمان على ورثة المقتول دون غيرهم‏,‏ على حسب مواريثهم هذا ظاهر قول الخرقي واختيار ابن حامد وقول الشافعي لأنها يمين في دعوى حق‏,‏ فلا تشرع في حق غير المتداعيين كسائر الأيمان فعلى هذه الرواية تقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر إرثهم‏,‏ فإن انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول اثنين أو أخا وزوجا‏,‏ حلف كل واحد منهم خمسة وعشرين يمينا وإن كانوا ثلاثة بنين وجدا أو أخوين‏,‏ جبر الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا لأن تكميل الخمسين واجب ولا يمكن تبعيض اليمين‏,‏ ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم وإن خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الأم سدس الأيمان‏,‏ ثم يجبر الكسر فيكون عليه تسع أيمان وعلى الأخ من الأب اثنتان وأربعون وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر‏:‏ يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا‏,‏ سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى‏,‏ وعن مالك أنه قال‏:‏ ينظر إلى من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط عن الآخر ولنا‏,‏ على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار‏:‏ ‏(‏تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ وأكثر ما روي عنه في الأيمان خمسون‏,‏ ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين وهذا خلاف النص ولأنها حجة للمدعين‏,‏ فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة ويفارق اليمين على المدعى عليه‏,‏ فإنها ليست حجة للمدعي ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق واحد كاليمين المنكسرة في القسامة‏,‏ فإنها تجبر وتكمل في حق كل واحد لكونها لا تتبعض وما لا يتبعض يكمل كالطلاق والعتاق وما ذكره مالك لا يصح لأنه إسقاط لليمين عمن عليه بعضها‏,‏ فلم يجز كما لو تساوى الكسران بأن يكون على كل واحد من الاثنين نصفها‏,‏ أو على كل واحد من الثلاثة ثلثها وبالقياس على من عليه أكثرها ولأن اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد ويستوى من له في المدعى كثير وقليل‏,‏ كذا ها هنا ولأنه يفضي إلى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه عمن وجبت عليه فلم يجز ذلك‏,‏ كاليمين الكاملة وكالجزء الأكبر‏.‏

فصل‏:‏

فإن كان فيهم من لا قسامة عليه بحال وهو النساء‏,‏ سقط حكمه فإذا كان ابن وبنت حلف الابن الخمسين كلها وإن كان أخ وأخت لأم وأخ وأخت لأب‏,‏ قسمت الأيمان بين الأخوين على أحد عشر على الأخ من الأم ثلاثة‏,‏ وعلى الآخر ثمانية ثم يجبر الكسر عليهما فيحلف الأخ من الأب سبعة وثلاثين يمينا‏,‏ والأخ من الأم أربع عشرة يمينا‏.‏

فصل‏:‏

فإن مات المستحق انتقل إلى وارثه ما عليه من الأيمان وكانت الأيمان بينهم على حسب مواريثهم‏,‏ ويجبر الكسر فيها عليهم كما ينجبر في حق ورثة القتيل وإن مات بعضهم قسم نصيبه من الأيمان بين ورثته‏,‏ فلو كان للقتيل ثلاثة بنين كان على كل واحد سبع عشرة يمينا فإن مات بعضهم قبل أن يقسم‏,‏ وخلف ثلاثة بنين قسمت أيمانه بينهم فكان على كل واحد منهم ستة أيمان وإن خلف ابنين‏,‏ حلف كل واحد تسعة أيمان وإنما قلنا هذا لأن الوارث يقوم مقام الموروث في إثبات حججه كما يقوم مقامه في استحقاق ماله وهذا من حججه‏,‏ ولذلك يملك إقامة البينة والحلف في الإنكار ومع الشاهد الواحد في دعوى المال وإن كان موته بعد شروعه في الأيمان فحلف بعضها‏,‏ فإن ورثته يستأنفون الأيمان ولا يبنون على أيمانه لأن الخمسين جرت مجرى اليمين الواحدة ولأنه لا يجوز أن يستحق أحد بيمين غيره ولا يبطل هذا بما إذا حلف جميع الأيمان ثم مات لأنه يستحق المال إرثا عنه‏,‏ لا بيمينه ولأنه إذا حلف الوارثان كل واحد خمسة وعشرين يمينا‏,‏ فإن الدية تستحق بيمينهما لأنهما يشتركان في الأيمان ويستحق كل واحد بقدر أيمانه ولا يستحق بيمين غيره‏,‏ وإن كان اجتماع العدد شرطا في استحقاقها‏.‏

فصل‏:‏

ولو حلف بعض الأيمان ثم جن ثم أفاق‏,‏ فإنه يتمم ولا يلزمه الاستئناف لأن أيمانه وقعت موقعها ويفارق الموت لأن الموت يتعذر معه إتمام الأيمان منه‏,‏ وغيره لا يبنى على يمينه وها هنا يمكنه أن يتمها إذا أفاق ولا تبطل بالتفريق بدليل أن الحاكم إذا حلفه بعض الأيمان‏,‏ ثم تشاغل عنه لم تبطل ويتمها‏,‏ وما لا يبطله التفريق لا يبطله تخلل الجنون له كالسعي بين الصفا والمروة وإن حلف بعض الأيمان‏,‏ ثم عزل الحاكم وولى غيره أتمها عند الثاني‏:‏ ولم يلزمه استئنافها لأن الأيمان وقعت موقعها وكذلك لو حلف بعضها‏,‏ ثم سأل الحاكم إنظاره فأنظره بنى على ما مضى‏,‏ ولم يلزمه الاستئناف لما ذكرنا‏.‏

فصل‏:‏

إذا ردت الأيمان على المدعى عليهم وكان عمدا لم تجز على أكثر من واحد‏,‏ فيحلف خمسين يمينا وإن كانت عن غير عمد كالخطأ وشبه العمد‏,‏ فظاهر كلام الخرقي أنه لا قسامة في هذا لأن القسامة من شرطها اللوث والعداوة‏,‏ إنما أثرها في تعمد القتل لا في خطئه فإن احتمال الخطأ في العمد وغيره سواء وقال غيره من أصحابنا‏:‏ فيه قسامة وهو قول الشافعي لأن اللوث لا يختص العداوة عندهم فعلى هذا تجوز الدعوى على جماعة‏,‏ فإذا ادعى على جماعة لزم كل واحد منهم خمسون يمينا وقال بعض أصحابنا‏:‏ تقسم الأيمان بينهم بالحصص كقسمها بين المدعين‏,‏ إلا أنها ها هنا تقسم بالسوية لأن المدعى عليهم متساوون فيها فهم كبني الميت وللشافعي قولان كالوجهين والحجة لهذا القول‏,‏ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏تبرئكم يهود بخمسين يمينا‏)‏ وفي لفظ قال‏:‏ ‏(‏فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرءون من دمه‏)‏ ولأنهم أحد المتداعيين في القسامة فتسقط الأيمان على عددهم‏,‏ كالمدعين وقال مالك‏:‏ يحلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا فإن لم يبلغوا خمسين رجلا رددت على من حلف منهم حتى تكمل خمسين يمينا‏,‏ فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعى عليه حلف وحده خمسين يمينا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏فتبرئكم يهود بخمسين يمينا‏)‏ ولنا أن هذه أيمان يبرئ بها كل واحد نفسه من القتل‏,‏ فكان على كل واحد خمسون كما لو ادعى على كل واحد وحده قتيل ولأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد ولأن كل واحد منهم يحلف على غير ما حلف عليه صاحبه‏,‏ بخلاف المدعين فإن أيمانهم على شيء واحد فلا يلزم من تلفيقها تلفيق ما يختلف مدلوله أو مقصوده‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا‏,‏ حرا أو عبدا إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل لأن القسامة توجب القود‏,‏ إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية ‏]‏

أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا‏,‏ فإن الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم اليهود بقتله فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقسامة وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا‏,‏ وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في حاله ففيه القسامة وهذا قول الشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي وقال الزهري والثوري ومالك‏,‏ والأوزاعي‏:‏ لا قسامة في العبد فإنه مال فلم تجب القسامة فيه كقتل البهيمة ولنا‏,‏ أنه قتل موجب للقصاص فأوجب القسامة كقتل الحر‏,‏ وفارق البهيمة فإنها لا قصاص فيها ويقسم على العبد سيده لأنه المستحق لدمه وأم الولد والمدبر‏,‏ والمكاتب والمعلق عتقه بصفة كالقن لأن الرق ثابت فيهم وإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه‏,‏ كالمسلم يقتل كافرا والحر يقتل عبدا فلا قسامة فيه‏,‏ في ظاهر قول الخرقي وهو قول مالك لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود وقال القاضي‏:‏ فيهما القسامة وهو قول الشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم‏,‏ ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد الكافر كالبينة ولنا‏,‏ أنه قتل لا يوجب القصاص فأشبه قتل البهيمة ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص‏,‏ شرعها مع عدمه بدليل أن العبد إذا اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان القتل موجبا للقصاص ذكره القاضي لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك‏,‏ ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة‏.‏

فصل‏:‏

وإن قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني لأنه مالك للعبد يملك التصرف فيه وفي بدله وليس لسيده انتزاعه منه‏,‏ وله شراؤه منه ولو اشترى المأذون له في التجارة عبدا فقتل فالقسامة لسيده دونه لأن ما يبتاعه المأذون يملكه سيده دونه‏,‏ ولهذا يملك انتزاعه منه وإن عجز المكاتب قبل أن يقسم فلسيده أن يقسم لأنه صار المستحق لبدل المقتول بمنزلة ورثة الحر إذا مات قبل أن يقسم‏,‏ ولو ملك السيد عبده أو أم ولده عبدا فقتل فالقسامة للسيد سواء قلنا‏:‏ يملك العبد بالتمليك‏,‏ أو لا يملك لأنه إن لم يملك فالملك لسيده وإن ملك فهو ملك غير ثابت‏,‏ ولهذا يملك سيده انتزاعه منه ولا يجوز له التصرف بغير إذن سيده بخلاف المكاتب وإن أوصى لأم ولده ببدل العبد صحت الوصية‏,‏ وإن كان لم يجب بعد كما تصح الوصية بثمرة لم تخلق والقسامة للورثة لأنهم القائمون مقام الموصي في إثبات حقوقه فإذا حلفوا‏,‏ ثبت لها البدل بالوصية وإن لم يحلفوا لم يكن لها أن تحلف‏,‏ كما إذا امتنع الورثة من اليمين مع الشاهد لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه‏.‏

فصل‏:‏

والمحجور عليه لسفه أو فلس كغير المحجور عليه‏,‏ في دعوى القتل والدعوى عليه إلا أنه إذا أقر بمال‏,‏ أو لزمته الدية بالنكول عن اليمين لم يلزمه في حال حجره لأن إقراره بالمال في الحال غير مقبول بالنسبة إلى أخذ شيء من ماله في الحال على ما عرف في موضعه‏.‏

فصل‏:‏

ولو جرح مسلم فارتد‏,‏ ومات على الردة فلا قسامة فيه لأن نفسه غير مضمونة وإنما يضمن الجرح‏,‏ ولا قسامة فيما دون النفس ولأن ماله يصير فيئا والفيء ليس له مستحق معين فتثبت القسامة له وإن مات مسلما‏,‏ فارتد وارثه قبل القسامة فقال أبو بكر‏:‏ ليس له أن يقسم وإن أقسم لم يصح لأن ملكه يزول عن ماله وحقوقه‏,‏ فلا يبقى مستحقا للقسامة وهذا قول المزني ولأن المرتد قد أقدم على الشرك الذي لا ذنب أعظم منه فلا يستحق بيمينه دم مسلم ولا يثبت بها قتل وقال القاضي‏:‏ الأولى أن تعرض عليه القسامة‏,‏ فإن أقسم وجبت الدية وهذا قول الشافعي لأن استحقاق المال بالقسامة حق عليه فلا يبطل بردته‏,‏ كاكتساب المال بوجوه الاكتساب وكفره لا يمنع يمينه فإن الكافر تصح يمينه‏,‏ وتعرض عليه في الدعاوى فإن حلف ثبت القصاص أو الدية فإن عاد إلى الإسلام‏,‏ كان له وإن مات كان فيئا والصحيح إن شاء الله‏,‏ ما قال أبو بكر لأن مال المرتد إما أن يكون ملكه قد زال عنه وإما موقوف وحقوق المال حكمها حكمه فإن قلنا بزوال ملكه‏,‏ فلا حق له وإن قلنا‏:‏ هو موقوف فهو قبل انكشاف حاله مشكوك فيه فلا يثبت الحكم بشيء مشكوك فيه‏,‏ فكيف وقتل المسلم أمر كبير لا يثبت مع الشبهات ولا يستوفى مع الشك فأما إن ارتد قبل موت موروثه لم يكن وارثا‏,‏ ولا حق له وتكون القسامة لغيره من الوراث فإن لم يكن للميت وارث سواه فلا قسامة فيه لما ذكرنا وإن عاد إلى الإسلام قبل قسامة غيره‏,‏ فقياس المذهب أنه يدخل في القسامة لأنه متى رجع قبل قسم الميراث قسم له وقال القاضي‏:‏ لا تعود القسامة إليه لأنها استحقت على غيره وإن ارتد رجل فقتل عبده أو قتل ثم ارتد‏,‏ فهل له أن يقسم‏؟‏ على وجهين بناء على الاختلاف المتقدم فإن عاد إلى الإسلام عادت القسامة لأنه يستحق بدل العبد‏.‏

فصل‏:‏

ولا قسامة فيما دون النفس من الأطراف والجوارح ولا أعلم بين أهل العلم في هذا خلافا وممن قال‏:‏ لا قسامة في ذلك مالك‏,‏ وأبو حنيفة والشافعي وذلك لأن القسامة تثبت في النفس لحرمتها فاختصت بها دون الأطراف‏,‏ كالكفارة ولأنها تثبت حيث كان المجني عليه لا يمكنه التعبير عن نفسه وتعيين قاتله ومن قطع طرفه‏,‏ يمكنه ذلك وحكم الدعوى فيه حكم الدعوى في سائر الحقوق والبينة على المدعي‏,‏ واليمين على من أنكر يمينا واحدة ولأنها دعوى لا قسامة فيها فلا تغلظ بالعدد كالدعوى في المال‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد ‏]‏

لا يختلف المذهب أنه لا يستحق بالقسامة أكثر من قتل واحد وبهذا قال الزهري‏,‏ ومالك وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم‏:‏ يستحق بها قتل الجماعة لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة‏,‏ كالبينة وهذا نحو قول أبي ثور ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته‏)‏ فخص بها الواحد ولأنها بينة ضعيفة‏,‏ خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه ويبقى على الأصل فيما عداه وبيان مخالفة الأصل بها‏,‏ أنها تثبت باللوث واللوث شبهة مغلبة على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات‏,‏ فكيف يثبت بها ولأن الأيمان في سائر الدعاوى تثبت ابتداء في جانب المدعى عليه وهذا بخلافه وبيان ضعفها‏,‏ أنها تثبت بقول المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه‏,‏ وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في إثبات حق لغيره فلأن يمنع من قبول قوله وحده في إثبات حقه لنفسه أولى وأحرى وفارق البينة فإنها قويت بالعدد‏,‏ وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين في كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا‏,‏ ولا يدفعون عنها ضرا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ولهذا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنتفي بالشبهات إذا ثبت هذا‏,‏ فلا قسامة فيما لا قود فيه في قول الخرقي فيطرد قوله في أن القسامة لا تشرع إلا في حق واحد وعند غيره أن القسامة تجري فيما لا قود فيه‏,‏ فيجوز أن يقسموا في هذا على جماعة وهذا قول مالك والشافعي فعلى هذا إن ادعى على اثنين‏,‏ على أحدهما لوث حلف على من عليه اللوث خمسين يمينا واستحق نصف الدية عليه‏,‏ وحلف الآخر يمينا واحدة وبرئ وإن نكل عن اليمين‏,‏ فعليه نصف الدية وإن ادعى على ثلاثة عليهم لوث ولم يحضر إلا واحد منهم حلف على الحاضر منهم خمسين يمينا‏,‏ واستحق ثلث الدية فإذا حضر الثاني‏:‏ ففيه وجهان أحدهما يحلف عليه خمسين يمينا أيضا‏,‏ ويستحق ثلث الدية لأن الحق لا يثبت على أحد الرجلين إلا بما يثبت على الآخر كالبينة فإنه يحتاج إلى إقامة البينة الكاملة على الثاني‏:‏ كإقامتها على الأول والثاني‏:‏ يحلف عليه خمسة وعشرين يمينا لأنهما لو حضرا معا‏,‏ لحلف عليهما خمسين يمينا حصة هذا منها خمسة وعشرون وهذا الوجه ضعيف فإن اليمين لا تقسم عليهم إذا حضروا ولو حلف كل واحد منفرد حصته من الأيمان لم يصح‏,‏ ولم يثبت له حق وإنما الأيمان عليهم جميعا وتتناولهم تناولا واحدا‏,‏ ولأنها لو قسمت عليهم بالحصص لوجب أن لا يقسم على الأول أكثر من سبع عشرة يمينا وكذلك على الثاني لأن هذا القدر هو حصته من الأيمان‏,‏ فعلى كلا التقديرين لا وجه لحلفه خمسة وعشرين يمينا وإن قيل‏:‏ إنما حلف بقدر حصته وحصة الثالث فينبغي أن يحلف أربعة وثلاثين وإذا قدم الثالث‏:‏ ففيه الوجهان أصحهما يحلف عليه خمسين يمينا‏,‏ ويستحق ثلث الدية والآخر يحلف سبعة عشر يمينا وإن حضروا جميعا حلف عليهم خمسين يمينا‏,‏ واستحق الدية عليهم أثلاثا وهذا التفريع يدل على اشتراط حضور المدعى عليه وقت الأيمان وذلك لأنها أقيمت مقام البينة فاشترط حضور من أقيمت عليه‏,‏ كالبينة وكذلك إن ردت الأيمان على المدعى عليهم اشترط حضور المدعين وقت حلف المدعى عليهم لأن الأيمان له عليهم فيعتبر رضاه بها وحضوره‏,‏ إلا أن يوكل وكيلا فيقوم حضوره مقام موكله‏.‏

فصل‏:‏

وإن قال المدعى‏:‏ قتله هذا ورجل آخر لا أعرفه وكان على المعين لوث أقسم عليه خمسين يمينا‏,‏ واستحق نصف الدية فإن تعين له الآخر حلف عليه‏,‏ واستحق نصف الدية وإن قال‏:‏ قتله هذا ونفر لا أعلم عددهم لم تجب القسامة لأنه لا يعلم كم حصته من الدية‏.‏

فصل‏:‏

ولا تسمع الدعوى إلا محررة بأن يقول‏:‏ أدعى أن هذا قتل وليي فلان ابن فلان‏,‏ عمدا أو خطأ أو شبه العمد ويصف القتل‏,‏ فإن كان عمدا قال‏:‏ قصد إليه بسيف أو بما يقتل مثله غالبا فإن كانت الدعوى على واحد فأقر ثبت القتل‏,‏ وإن أنكر وثم بينة حكم بها وإلا صار الأمر إلى الأيمان وإن كانت الدعوى على أكثر من واحد‏,‏ لم يخل من أربعة أحوال أحدها أن يقول‏:‏ قتله هذا وهذا تعمد قتله ويصف العمد بصفته‏,‏ فيقال له‏:‏ عين واحدا فإن القسامة الموجبة للقود لا تكون على أكثر من واحد الحال الثاني‏:‏ أن يقول‏:‏ تعمد هذا وهذا كان خاطئا فهو يدعي قتلا غير موجب للقود‏,‏ فيقسم عليهما ويأخذ نصف الدية من مال العامد ونصفها من عاقلة المخطئ الحال الثالث أن يقول‏:‏ عمد هذا‏,‏ ولا أدري أكان قتل الثاني عمدا أو خطأ‏؟‏ فقيل‏:‏ لا تسوغ القسامة ها هنا لأنه يحتمل أن يكون الآخر مخطئا فيكون موجبها الدية عليهما ويحتمل أن يكون عامدا فلا تسوغ القسامة عليهما‏,‏ ويجب تعيين واحد والقسامة عليه فيكون موجبها القود‏,‏ فلم تجز القسامة مع هذا فإن عاد فقال‏:‏ علمت أن الآخر كان عامدا فله أن يعين واحدا ويقسم عليه وإن قال‏:‏ كان مخطئا ثبتت القسامة حينئذ ويسأل‏,‏ فإن أنكر ثبتت القسامة وإن أقر ثبت عليه القتل ويكون عليه نصف الدية في ماله لأنه ثبت بإقراره لا بالقسامة وقال القاضي‏:‏ يكون على عاقلته والأول أصح لأن العاقلة لا تحمل اعترافا الحال الرابع‏,‏ أن يقول‏:‏ قتلاه خطأ أو شبه عمد أو أحدهما خاطئ‏,‏ والآخر شبه العمد فله أن يقسم عليهما فإن ادعى أنه قتل وليه عمدا فسئل عن تفسير العمد ففسره بعمد الخطأ‏,‏ قبل تفسيره وأقسم على ما فسره به لأنه أخطأ في وصف القتل بالعمدية ونقل المزني عن الشافعي‏:‏ لا يحلف عليه لأنه بدعوى العمد برأ العاقلة‏,‏ فلا تسمع دعواه بعد ذلك ما يوجب عليهم المال ولنا أن دعواه قد تحررت وإنما غلط في تسمية شبه العمد عمدا‏,‏ وهذا مما يشتبه فلا يؤاخذ به ولو أحلفه الحاكم قبل تحرير الدعوى وتبين نوع القتل لم يعتد باليمين لأن الدعوى لا تسمع غير محررة‏,‏ فكأنه حلفه قبل الدعوى ولأنه إنما يحلفه ليوجب له ما يستحقه فإذا لم يعلم ما يستحقه بدعواه‏,‏ لم يحصل المقصود باليمين فلم يصح‏.‏

فصل‏:‏

قال القاضي‏:‏ يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله‏,‏ وإن كانوا غائبين عن مكان القتل لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار‏:‏ ‏(‏تحلفون وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر ولأن الإنسان يحلف على غالب ظنه‏,‏ كما أن من اشترى من إنسان شيئا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه‏,‏ وكذلك إذا وجد شيئا بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا‏,‏ فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده كان له أن يحلف أنه باعه بريئا من العيب ولا ينبغي أن يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات‏,‏ وغلبة ظن يقارب اليقين وينبغي للحاكم أن يقول لهم‏:‏ اتقوا الله واستثبتوا ويعظهم‏,‏ ويحذرهم ويقرأ عليهم‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا‏}‏ ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة وظلم البريء‏,‏ وقتل النفس بغير الحق ويعرفهم أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وهذا كله مذهب الشافعي‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيدا فيقول‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فإن اقتصر على لفظة‏:‏ والله كفى‏,‏ أو يقول‏:‏ والله أو بالله أو تالله بالجر كما تقتضيه العربية فإن قاله مضموما‏,‏ أو منصوبا فقد لحن قال القاضي‏:‏ ويجزئه تعمده أو لم يتعمد لأنه لحن لا يحيل المعنى وهو قول الشافعي وما زاد على هذا تأكيد ويقول‏:‏ لقد قتل فلان بن فلان الفلاني ويشير إليه فلانا ابني‏,‏ أو أخي منفردا بقتله ما شركه غيره وإن كانا اثنين قال‏:‏ منفردين‏,‏ ما شركهما غيرهما ثم يقول‏:‏ عمدا أو خطأ وبأي اسم من أسماء الله أو صفة من صفات ذاته حلف أجزأ‏,‏ إذا كان إطلاقه ينصرف إلى الله تعالى ويقول المدعى عليه في اليمين‏:‏ والله ما قتلته ولا شاركت في قتله ولا أحدثت شيئا مات منه‏,‏ ولا كان سببا في موته ولا معينا على موته‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن قتل نفسا محرمة أو شارك فيها‏,‏ أو ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا وكان الفعل خطأ‏,‏ فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‏,‏ توبة من الله وعن أبي عبد الله -رحمه الله- رواية أخرى‏,‏ أن على قاتل العمد تحرير رقبة مؤمنة ‏]‏

الأصل في كفارة القتل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ الآية وأجمع أهل العلم على أن على القاتل خطأ كفارة سواء كان المقتول ذكرا أو أنثى وتجب في قتل الصغير والكبير سواء باشره بالقتل‏,‏ أو تسبب إلى قتله بسبب يضمن به النفس كحفر البئر ونصب السكين‏,‏ وشهادة الزور وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تجب بالتسبب لأنه ليس بقتل ولأنه ضمن بدله بغير مباشرة للقتل فلم تلزمه الكفارة كالعاقلة ولنا‏,‏ أنه كالمباشرة في الضمان فكان كالمباشرة في الكفارة ولأنه سبب لإتلاف الآدمي‏,‏ يتعلق به ضمانه فتعلقت به الكفارة كما لو كان راكبا فأوطأ دابته إنسانا وقياسهم ينتقض بالأب إذا أكره إنسانا على قتل ابنه فإن الكفارة تجب عليه من غير مباشرة‏,‏ وفارق العاقلة فإنها تتحمل عن غيرها ولم يصدر منها قتل ولا تسبب إليه وقولهم‏:‏ ليس بقتل ممنوع قال القاضي‏:‏ ويلزم الشهود الكفارة سواء قالوا‏:‏ أخطأنا‏,‏ أو تعمدنا وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد لأنه إن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ‏,‏ في أنه لا يجب به القصاص‏.‏

فصل‏:‏

وتجب الكفارة بقتل العبد وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك‏:‏ لا تجب به لأنه مضمون بالقيمة‏,‏ أشبه البهيمة ولنا عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ولأنه يجب القصاص بقتله فتجب الكفارة به‏,‏ كالحر ولأنه مؤمن فأشبه الحر‏,‏ ويفارق البهائم بذلك‏.‏

فصل‏:‏

وتجب بقتل الكافر المضمون سواء كان ذميا أو مستأمنا وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال الحسن ومالك‏:‏ لا كفارة فيه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ فمفهومه أن لا كفارة في غير المؤمن ولنا‏,‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ والذمي له ميثاق وهذا منطوق يقدم على دليل الخطاب ولأنه آدمي مقتول ظلما‏,‏ فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم‏.‏

فصل‏:‏

وإذا قتل الصبي والمجنون وجبت الكفارة في أموالهما‏,‏ وكذلك الكافر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا كفارة على واحد منهم لأنها عبادة محضة تجب بالشرع فلا تجب على الصبي والمجنون والكافر‏,‏ كالصلاة والصيام ولنا أنه حق مالي يتعلق بالقتل‏,‏ فتعلقت بهم كالدية وتفارق الصوم والصلاة لأنهما عبادتان بدنيتان وهذه مالية‏,‏ أشبهت نفقات الأقارب وأما كفارة اليمين فلا تجب على الصبي والمجنون لأنها تتعلق بالقول ولا قول لهما‏,‏ وهذه تتعلق بالفعل وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالفعل ما لا يتعلق بالقول بدليل أن العتق يتعلق بإحبالهما دون إعتاقهما بقولهما وأما الكافر فتجب عليه‏,‏ وتكون عقوبة عليه كالحدود‏.‏

فصل‏:‏

ومن قتل في دار الحرب مسلما يعتقده كافرا أو رمى إلى صف الكفار‏,‏ فأصاب فيهم مسلما فقتله فعليه كفارة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏‏.‏

فصل‏:‏

ومفهوم كلام الخرقي أن كل قتل مباح لا كفارة فيه‏,‏ كقتل الحربي والباغي والزاني المحصن‏,‏ والقتل قصاصا أو حدا لأنه قتل مأمور به والكفارة لا تجب لمحو المأمور به وأما الخطأ فلا يوصف بتحريم ولا إباحة لأنه كفعل المجنون‏,‏ والبهيمة لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة محترمة فلذلك وجبت الكفارة فيها وقال قوم‏:‏ الخطأ محرم ولا إثم فيه وقيل‏:‏ ليس بمحرم لأن المحرم ما أثم فاعله‏,‏ وهذا لا إثم فيه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ‏}‏ هذا استثناء منقطع و ‏(‏إلا‏)‏ في موضع ‏"‏ لكن ‏"‏ التقدير‏:‏ لكن قد يقتله خطأ وقيل‏:‏ ‏(‏إلا‏)‏ بمعنى ‏"‏ ولا ‏"‏ أي ولا خطأ وهذا يبعد لأن الخطأ لا يتوجه إليه النهي لعدم إمكان التحريم منه‏,‏ وكونه لا يدخل تحت الوسع ولأنها لو كانت بمعنى ‏"‏ ولا ‏"‏ كانت عاطفة للخطأ على ما قبله وليس قبله ما يصلح عطفه عليه وأما قتل نساء أهل الحرب وصبيانهم‏,‏ فلا كفارة فيه لأنه ليس لهم إيمان ولا أمان وإنما منع من قتلهم لانتفاع المسلمين بهم‏,‏ لكونهم يصيرون بالسبي رقيقا ينتفع بهم وكذلك قتل من لم تبلغه الدعوة لا كفارة فيه لذلك ولذلك لم يضمنوا بشيء‏,‏ فأشبهوا من قتله مباح‏.‏

فصل‏:‏

ومن قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تجب لأن ضمان نفسه لا يجب فلم تجب الكفارة‏,‏ كقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم ولنا عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ولأنه آدمي مؤمن مقتول خطأ فوجبت الكفارة على قاتله‏,‏ كما لو قتله غيره والأول أقرب إلى الصواب إن شاء الله فإن ‏(‏عامر بن الأكوع‏,‏ قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه بكفارة‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ‏}‏ إنما أريد بها إذا قتل غيره بدليل قوله‏:‏ ‏{‏ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

ومن شارك في قتل يوجب الكفارة‏,‏ لزمته كفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن‏,‏ وعكرمة والنخعي والحارث العكلي‏,‏ والثوري ومالك والشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى‏,‏ أن على الجميع كفارة واحدة وهو قول أبي ثور وحكي عن الأوزاعي وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وأنكره سائر أصحابه واحتج لمن أوجب كفارة واحدة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ و ‏(‏من‏)‏ يتناول الواحد والجماعة‏,‏ ولم يوجب إلا كفارة واحدة ودية والدية لا تتعدد‏,‏ فكذلك الكفارة ولأنها كفارة قتل فلم تتعدد بتعدد القاتلين مع اتحاد المقتول ككفارة الصيد الحرمي ولنا‏,‏ أنها لا تتبعض وهي من موجب قتل الآدمي فكملت في حق كل واحد من المشتركين‏,‏ كالقصاص وتخالف كفارة الصيد فإنها تجب بدلا ولهذا تجب في أبعاضه وكذلك الدية‏.‏

فصل‏:‏

إذا ضرب بطن امرأة‏,‏ فألقت جنينا ميتا فعليه الكفارة وبه قال الحسن وعطاء‏,‏ والزهري والنخعي والحكم‏,‏ وحماد ومالك والشافعي‏,‏ وإسحاق وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تجب وقد مضت هذه المسألة‏:‏ في دية الجنين‏.‏

فصل‏:‏

والمشهور في المذهب‏:‏ أنه لا كفارة في قتل العمد وبه قال الثوري ومالك وأبو ثور‏,‏ وابن المنذر وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى‏,‏ تجب فيه الكفارة وحكي ذلك عن الزهري وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن الأسقع قال‏:‏ ‏(‏أتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- بصاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال‏:‏ اعتقوا عنه رقبة‏,‏ يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار‏)‏ ولأنها إذا وجبت في قتل الخطأ ففي العمد أولى لأنه أعظم إثما‏,‏ وأكبر جرما وحاجته إلى تكفير ذنبه أعظم ولنا مفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ثم ذكر قتل العمد‏,‏ فلم يوجب فيه كفارة وجعل جزاءه جهنم فمفهومه أنه لا كفارة فيه وروي ‏(‏أن سويد بن الصامت قتل رجلا‏,‏ فأوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه القود ولم يوجب كفارة‏)‏ ‏(‏وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فوداهما النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يوجب كفارة‏)‏ ولأنه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة‏,‏ كزنى المحصن وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ‏,‏ وسماه موجبا أي فوت النفس بالقتل ويحتمل أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالإعتاق تبرعا ولذلك أمر غير القاتل بالإعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في الخطأ‏,‏ فتمحو إثمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك إيجابها في موضع عظم الإثم فيه بحيث لا يرتفع بها إذا ثبت هذا‏,‏ فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد ولده والسيد عبده‏,‏ والحر العبد والمسلم الكافر لأن هذا من أنواع العمد‏.‏

فصل‏:‏

وتجب الكفارة في شبه العمد ولم أعلم لأصحابنا فيه قولا لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه ولأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص‏,‏ وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى مجراه في وجوب الكفارة‏,‏ ولأن القاتل إنما لم يحمل شيئا من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة تحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شيء أصلا‏,‏ ولم يرد الشرع بهذا‏.‏

فصل‏:‏

وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص الكتاب سواء كان القاتل أو المقتول مسلما أو كافرا‏,‏ فإن لم يجدها في ملكه فاضلة عن حاجته أو يجد ثمنها‏,‏ فاضلا عن كفايته فصيام شهرين متتابعين توبة من الله‏,‏ وهذا ثابت بالنص أيضا فإن لم يستطع ففيه روايتان إحداهما‏,‏ يثبت الصيام في ذمته ولا يجب شيء آخر لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره والثاني‏:‏ يجب إطعام ستين مسكينا لأنها كفارة فيها عتق وصيام شهرين متتابعين‏,‏ فكان فيها إطعام ستين مسكينا عند عدمها ككفارة الظهار والفطر في رمضان وإن لم يكن مذكورا في نص القرآن‏,‏ فقد ذكر ذلك في نظيره فيقاس عليه فعلى هذه الرواية إن عجز عن الإطعام‏,‏ ثبت في ذمته حتى يقدر عليه وللشافعي قولان في هذا كالروايتين والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه إلا عدلان ‏]‏

وجملته أن ما أوجب القصاص في نفس‏,‏ كالقتل العمد العدوان من المكافئ أو في طرف كقطعه من مفصل عمدا ممن يكافئه‏,‏ فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين عدلين ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شاهد ويمين الطالب لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا وذلك لأن القصاص إراقة دم‏,‏ عقوبة على جناية فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود وسواء كان القصاص يجب على مسلم أو كافر‏,‏ أو حر أو عبد لأن العقوبة يحتاط لدرئها وقد روي عن أبي عبد الله -رحمه الله- رواية أخرى‏,‏ أنه لا يقبل في الشهادة على القتل إلا شهادة أربعة وهذا مذهب الحسن لأنها شهادة يثبت بها القتل فلم يقبل أقل من أربعة كالشهادة على الزنى من المحصن ولنا‏,‏ أنه أحد نوعي القصاص فيقبل فيه اثنان كقطع الطرف وفارق الزنى فإنه مختص بهذا‏,‏ وليست العلة كونه قتلا بدليل وجوب الأربعة في زنى البكر ولا قتل فيه‏,‏ ولأنه انفرد بوجوب الحد على الرامي به والشهود إذا لم تكمل شهادتهم فلم يجز أن يلحق به ما ليس مثله‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وما أوجب من الجنايات المال دون القود‏,‏ قبل فيه رجل وامرأتان أو رجل عدل مع يمين الطالب ‏]‏

وجملته أن ما كان موجبه المال كقتل الخطأ‏,‏ وشبه العمد والعمد في حق من لا يكافئه والجائفة‏,‏ والمأمومة وما دون الموضحة وشريك الخاطئ‏,‏ وأشباه هذا فإنه يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وشهادة عدل ويمين الطالب وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر‏:‏ لا يثبت أيضا إلا بشهادة عدلين‏,‏ ولا تسمع فيه شهادة النساء ولا شاهد ويمين لأنها شهادة على قتل أو جناية على آدمي‏,‏ فلم تسمع من النساء كالقسم الأول يبين صحة هذا أنه لما لم يكن للنساء مدخل في القسامة في العمد‏,‏ ولم يكن لهن مدخل في القسامة على الخطأ وشبه العمد الموجب للمال فيدل هذا على أنهن لا مدخل لهن في الشهادة على دم بحال ولنا أنها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص‏,‏ فوجب أن تقبل كالشهادة على البيع والإجارة وفارق قتل العمد فإنه موجب للعقوبة التي يحتاط بإسقاطها فاحتيط في الشهادة على أسبابها‏,‏ وفي مسألتنا المقصود تقبل شهادتهن فيه فقبلت شهادتهن على سببه‏.‏

فصل‏:‏

ولو ادعى جناية عمد‏,‏ وقال‏:‏ عفوت عن القصاص فيها لم يقبل فيه شاهد وامرأتان لأنه إنما يعفو عن شيء ثبت له ولا يثبت ذلك القتل بتلك الشهادة وإن ثبت القتل إما بشاهدين أو بإقرار المدعى عليه‏,‏ صح العفو لأن الحق ثبت له بوجود القتل وإنما خفي ثبوته عمن لم يعلم ذلك فإذا علم ذلك‏,‏ علم أنه كان ثابتا من حين وجد القتل فيكون العفو مصادفا لحقه الثابت فينفذ‏,‏ كما لو أعتق عبدا ينازعه فيه منازع ثم ثبت أنه كان ملكه حين العتق‏.‏

فصل‏:‏

ولا يثبت القتل بالشهادة إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهدين نحو أن يقولا‏:‏ نشهد أنه ضربه فقتله أو‏:‏ فمات منه فإن قالا‏:‏ ضربه بالسيف فمات أو‏:‏ فوجدناه ميتا أو‏:‏ فمات عقيبه أو قالا‏:‏ ضربه بالسيف‏,‏ فأسال دمه أو‏:‏ فأنهر دمه فمات مكانه لم يثبت القتل لجواز أن يكون مات عقيب الضرب بسبب آخر وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل بالقتل فقال‏:‏ أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات‏,‏ فقال له شريح‏:‏ فمات منه‏؟‏ فأعاد الرجل قوله الأول فقال له شريح‏:‏ قم فلا شهادة لك وإن كانت الشهادة بالجرح‏,‏ فقالا‏:‏ ضربه فأوضحه أو فاتضح منه أو‏:‏ فوجدناه موضحا من الضربة قبلت شهادتهما وإن قالا‏:‏ ضربه فاتضح رأسه أو‏:‏ وجدناه موضحا أو‏:‏ فأسال دمه‏,‏ ووجدنا في رأسه موضحة لم يثبت الإيضاح لجواز أن يتضح عقيب ضربه بسبب آخر ولا بد من تعيين الموضحة في إيجاب القصاص لأنه إن كان في رأسه موضحتان فيحتاجان إلى بيان ما شهدا به منهما وإن كانت واحدة‏,‏ فيحتمل أن يكون قد أوسعها غير المشهود عليه فيجب أن يعينها الشاهدان فيقولان‏:‏ هذه وإن قالا‏:‏ أوضحه في موضع كذا من رأسه موضحة قدر مساحتها كذا وكذا قبلت شهادتهما وإن قالا‏:‏ لا نعلم قدرها‏,‏ أو موضعها لم يحكم بالقصاص لأنه يتعذر مع الجهالة وتجب الدية لأنها لا تختلف باختلافها وإن قالا‏:‏ ضرب رأسه فأسال دمه كانت بازلة وإن قالا‏:‏ فسال دمه لم يثبت شيء لجواز أن يسيل دمه بسبب آخر وإن قالا‏:‏ نشهد أنه ضربه‏,‏ فقطع يده ولم يكن أقطع اليدين قبلت شهادتهما وثبت القصاص لعدم الاشتباه وإن كان أقطع اليدين‏,‏ ولم يعينا المقطوعة لم يثبت القصاص لأنهما لم يعينا اليد التي يجب القصاص منها وتجب دية اليدين لأنها لا تختلف باختلاف اليدين‏.‏

فصل‏:‏

إذا شهد أحدهما أنه أقر بقتله عمدا‏,‏ وشهد الآخر أنه أقر بقتله ولم يقل‏:‏ عمدا ولا خطأ ثبت القتل لأن البينة قد تمت عليه ولم تثبت صفته لعدم تمامها عليه ويسأل المشهود عليه عن صفته‏,‏ فإن أنكر أصل القتل لم يقبل إنكاره لقيام البينة به‏,‏ وإن أقر بقتل العمد ثبت بإقراره وإن أقر بقتل الخطأ وأنكر الولي‏,‏ فالقول قول القاتل وهل يستحلف على ذلك‏؟‏ يخرج فيه وجهان وإن صدقه الولي على الخطأ ثبت عليه وإن أقر بقتل العمد وكذبه الولي‏,‏ وقال‏:‏ بل كان خطأ لم يجب القود لأن الولي لا يدعيه وتجب دية الخطأ ولا تحمل العاقلة شيئا من ديته في هذه المواضع كلها وتكون في ماله‏,‏ لأنها لم تثبت ببينة وفي بعضها القاتل مقر بأنها في ماله دون مال عاقلته وإن قال أحد الشاهدين‏:‏ أشهد أنه أقر بقتله عمدا وقال الآخر‏:‏ أشهد أنه أقر بقتله خطأ ثبت القتل أيضا لأنه لا تنافي بين شهادتيهما لأنه يجوز أن يقر عند أحدهما بقتل العمد ويقر عند الآخر بقتل الخطأ‏,‏ فثبت إقراره بالقتل دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا في التي قبلها وإن شهد أحدهما أنه قتله عمدا‏,‏ وشهد الآخر أنه قتله خطأ ثبت القتل أيضا دون صفته ويطالب ببيان صفته‏,‏ على ما ذكرنا لأن الفعل قد يعتقده أحدهما خطأ والآخر عمدا‏,‏ ويكون الحكم كما لو شهد على إقراره بذلك وإن شهد أحدهما أنه قتله غدوة وقال الآخر‏:‏ عشية وقال أحدهما‏:‏ قتله بسيف وقال الآخر‏:‏ بعصا لم تتم الشهادة ذكره القاضي لأن كل واحد منهما يخالف صاحبه ويكذبه وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر‏:‏ يثبت القتل بذلك لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته فأشبه التي قبلها والأول أصح لأن كل واحد من الشاهدين يكذب صاحبه‏,‏ فإن القتل غدوة غير القتل عشية ولا يتصور أن يقتل غدوة ثم يقتل عشية ولا أن يقتل بسيف ثم يقتل بعصا‏,‏ بخلاف العمد والخطأ لأن الفعل واحد والخلاف في نيته وقصده وقد يخفى ذلك على أحدهما دون الآخر وإن شهد أحدهما أنه قتله‏,‏ وشهد الآخر أنه أقر بقتله ثبت القتل نص عليه أحمد واختاره أبو بكر واختار القاضي أنه لا يثبت وهو مذهب الشافعي لأن أحدهما شهد بغير ما شهد به الآخر‏,‏ فلم تتفق شهادتهما على فعل واحد ولنا أن الذي أقر به هو القتل الذي شهد به الشاهد فلا تنافي بينهما‏,‏ فيثبت بشهادتهما كما لو شهد أحدهما بالقتل عمدا والآخر بالقتل خطأ‏,‏ أو كما لو شهد أحدهما أن له عليه ألفا وشهد الآخر أنه أقر بألف له‏.‏

فصل‏:‏

إذا قتل رجل عمدا قتلا يوجب القصاص فشهد أحد الورثة على واحد منهم أنه عفا عن القود سقط القصاص سواء كان الشاهد عدلا‏,‏ أو فاسقا لأن شهادته تضمنت سقوط حقه من القصاص وقوله مقبول في ذلك فإن أحد الوليين إذا عفا عن حقه سقط القصاص كله ويشبه هذا ما لو كان عبد بين شريكين‏,‏ فشهد أحدهما أن شريكه أعتق نصيبه وهو موسر عتق نصيبه وإن أنكره الآخر فإن كان الشاهد بالعفو شهد بالعفو عن القصاص والمال‏,‏ لم يسقط المال لأن الشاهد اعترف أن نصيبه سقط بغير اختياره فأما نصيب المشهود عليه فإن كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته‏,‏ فالقول قول المشهود عليه مع يمينه فإذا حلف ثبتت حصته من الدية وإن كان الشاهد مقبول القول‏,‏ حلف الجاني معه وسقط عنه الحق المشهود عليه ويحلف الجاني أنه عفا عن الدية‏,‏ ولا يحتاج إلى ذكر العفو عن القصاص لأنه قد أسقط بشهادة الشاهد فلا يحتاج إلى ذكره في اليمين ولأنه إنما يحلف على ما يدعي عليه ولا يدعى عليه غير الدية‏.‏

فصل‏:‏

وإذا جرح رجل‏,‏ فشهد له رجلان من ورثته غير الوالدين والمولودين نظرت فإن كانت الجراح مندملة فشهادتهما مقبولة لأنهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا‏,‏ وإن كانت غير مندملة لم يحكم بشهادتهما لجواز أن تصير نفسا فتجب الدية لهما بشهادتهما‏,‏ فإن شهدا في تلك الحال وردت شهادتهما ثم اندملت‏,‏ فأعادا شهادتهما فهل تقبل‏؟‏ على وجهين أحدهما لا تقبل لأن الشهادة ردت للتهمة‏,‏ فلا تقبل وإن زالت التهمة كالفاسق إذا أعاد شهادته المردودة بعد عدالته والثاني‏:‏ تقبل لأن سبب التهمة قد تحقق زواله وللشافعي وجهان كهذين وإن شهد وارثا المريض بمال‏,‏ ففي قبول شهادتهما له وجهان أحدهما تقبل لأنهما يثبتان المال للمريض وإن مات انتقل إليهما عنه‏,‏ فأشبهت الشهادة للصحيح بخلاف الجناية فإنها إذا صارت نفسا وجبت الدية لهما بها والوجه الثاني‏:‏ لا تقبل لأنه متى ثبت المال للمريض‏,‏ تعلق حق ورثته به ولهذا لا ينفذ تبرعه فيه فيما زاد على الثلث وإن شهد للمجروح بالجرح من لا يرثه‏,‏ لكونه محجوبا كالأخوين يشهدان لأخيهما وله ابن‏,‏ سمعت شهادتهما فإن مات ابنه نظرت فإن كان الحاكم حكم بشهادتهما‏,‏ لم ينقض حكمه لأن ما يطرأ بعد الحكم بالشهادة لا يؤثر فيها كالفسق وإن كان ذلك قبل الحكم بالشهادة‏,‏ لم يحكم بها لأنهما صارا مستحقين فلا يحكم بشهادتهما كما لو فسق الشاهدان قبل الحكم بشهادتهم وإن شهد على رجل بالجراح الموجبة للدية على العاقلة‏,‏ فشهد بعض عاقلة المشهود عليه بجرح الشهود لم تقبل شهادته وإن كان فقيرا لأنه قد يكون ذا مال وقت العقل‏,‏ فيكون دافعا عن نفسه وإن كان الجرح مما لا تحمله العاقلة كجراحة العمد‏,‏ أو العبد سمعت شهادة العاقلة بجرح الشهود لأنهما لا يدفعان عن أنفسهما ضررا فإن موجب هذه الجراحة القصاص أو المال في ذمة الجاني‏,‏ وكذلك إن كان الشاهدان يشهدان على إقراره بالجرح لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن كانت شهادتهما بجراح عقله دون ثلث الدية خطأ نظرنا فإن كانت شهادة العاقلة بجرح الشهود قبل الاندمال لم تقبل لأنها ربما صارت نفسا فتحملها العاقلة‏,‏ وإن كانت بعده قبلت لأنها لا تحمل ما دون الثلث وإن كان الشاهدان بالجرح ليسا من العاقلة في الحال وإنما يصيران من العاقلة التي تتحمل أن لو مات من هو أقرب منهما‏,‏ قبلت شهادتهما ذكره القاضي لأنهما ليسا من العاقلة وإنما يصيران منها بموت القريب والظاهر حياته وفارق الفقير إذا شهد لأن الغني ليست عليه أمارة‏,‏ فإن المال غاد ورائح ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرنا ويحتمل أن يسوى بين المسلمين لأن كل واحد منهما ليس من العاقلة في الحال وإنما يصير منها بحدوث أمر لم يتفق الآن سببه فهما سواء‏,‏ واحتمال غني الفقير كاحتمال موت الحي بل الموت أقرب‏,‏ فإنه لا بد منه وكل حي ميت وكل نفس ذائقة الموت‏,‏ وليس كل فقير يستغنى فما ثبت في إحدى الصورتين يثبت في الأخرى فيثبت فيهما جميعا وجهان‏,‏ بأن ينقل حكم كل واحدة من الصورتين إلى الأخرى‏.‏

فصل‏:‏

إذا شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا رجلا ثم شهد المشهود عليهما على الأولين أنهما اللذان قتلاه‏,‏ فصدق الولي الأولين وكذب الآخرين وجب القتل عليهما لأن الولي يكذبهما‏,‏ وهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما ضررا وإن صدق الآخرين وحدهما بطلت شهادة الجميع لأن الأولين‏,‏ بطلت شهادتهما لتكذيبه لهما ورجوعه عما شهدا له به والآخران لا تقبل شهادتهما لأنهما عدوان للأولين‏,‏ ولأنهما يدفعان عن أنفسهما ضررا وإن صدق الجميع بطلت شهادتهم أيضا لأنه بتصديق الأولين مكذب للآخرين‏,‏ وتصديقه للآخرين تكذيب للأولين وهما متهمان لما ذكرناه فإن قيل‏:‏ كيف تتصور هذه المسألة‏:‏ والشهادة إنما تكون بعد الدعوى‏,‏ فكيف يتصور فرض تصديقهم وتكذيبهم‏؟‏ قلنا‏:‏ قد يتصور أن يشهدوا قبل الدعوى إذا لم يعلم الولى من قتله ولهذا روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها‏)‏ وهذا معنى ذلك‏.‏